نظرة قرآنية في تلوث البيئة
يتضح للمتأمل في كتاب الله سبحانه أنه هدف من خلق الإنسان إلى ثلاثة أمور جليلة :
أولها : عبادة الله سبحانه فقال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) .
وثانيها : إقامة خلافة التوحيد على هذا الكوكب فقال : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) .
وثالثها : وهو ما نحن في صدده الآن : عمارة هذا الكوكب فقال : ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ..) .
ولما كان الفساد في الأرض يتناقض مع عمارتها نهى الشارع عنه وحاربه محاربة شديدة ، قال تعالى : ( إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) . وقال : ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) .
ومن أبرز قواعد الشريعة عند الأصوليين : إن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها .
ويقول ابن القيم : " فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه " .
وبلغت شدة النهي عن الفساد في الأرض إلى درجة سفك دم المفسد حيث قال سبحانه : ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ) . فجعل الفساد في الأرض مبررا لقتل المفسد .
والفساد في الإسلام يشمل الجانب العقدي والأخلاقي والبيئي وكل ما هو ضار في هذا الكوكب وقد صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) . وصار هذا الحديث قاعدة فقهية لعظمته وكونه من جوامع الكلم .
ومن جهة أخرى شجع الإسلام على مقاومة الفساد وإبعاده عن الناس لدرجة أنه جعل أبسط أنواع هذا الدفع جزءا من الإيمان ، فما بالك بثواب من فعل أكثر من ذلك ؟ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتفق عليه : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .
والتلوث البيئي جزء من الفساد في الأرض ، إذ يعرّف بأنه : ( تواجد أي مواد تفسد نظام الطبيعة وما تحتويه من كائنات حية ونباتية ، وغلاف جوي ، بالإضافة إلى إفسادها للخواص الطبيعية والكيميائية للأشياء بحيث يؤدي ذلك إلى الإخلال بالتوازن البيئي . أو هو : وجود أي مادة أو طاقة في غير مكانها وزمانها وكميتها المناسبة .. ".
وعلى كلا التعريفين هو ضرر يطال الإنسان والحيوان والنبات ، ومتناقض مع ما يريده سبحانه من عمارة الأرض ، لذلك تنطبق عليه كل الأمور الشرعية التي ذكرتها ليتبين لنا أن الإسلام قبل 14 قرنا حذر مما تعاني منه البشرية اليوم والقرآن عندما يخاطب الإنسان داعيا له إلى الخير إنما يقصد الجنس البشري بأجمعه ، وعندما يتكلم عن الأرض وإصلاحها وعمارتها إنما يقصد كل الكوكب ، بل إن القرآن ينظر إلى البشرية على أنها أسرة مكونة من أب وأم و أولاد ؛ قال تعالى : ( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) . وكلنا يعرف أن تفاحة فاسدة في صندوق تفاح تفسده ، ولكننا لم ننظر إلى العالم هذه النظرة القرآنية لنراه كصندوق تفاحاته دوله إلا في فترة متأخرة حيث صار يقال : إن العالم كقرية صغيرة لابدّ لها من تنظيم شامل في بعض الجوانب ، ومنها البيئة إذ لا تجدي فيه إلا الجهود المجتمعة المتآزرة .
ونحن مع تقديرنا للثورة الصناعية وما آلت إليه من تقدم تكنولوجي بدا يوما وكأنه عمارة للأرض وإصلاح لحالها إلا أنه يبدو في هذه الأيام أنها كانت ـ في بعض الجوانب ـ ثورة عمياء ، وتقدمها تقدما انتحاريا ما لبث أن صار نذير شؤم ، إذ وضع البشرية على حافة هاوية ! وما ذلك إلا لعدم إبصار سنن الكون ونظامه ودقّة إحكامه وتوازنه . فإن الله سبحانه عندما أسكن أبا البشرية آدم ـ عليه السلام ـ هذا الكوكب هيّأه له بهواء تناسبت فيه كميات الغازات بشكل مفيد له ، ومهد له الأرض وتربتها بشكل يخرج فيها النبات المبارك ، وأنزل عليه المطر المطهّر ، وحفظ كوكبه بغلاف جوي ، وغير ذلك مما عرف ومما لم يعرف بعد من بديع صنعه سبحانه . قال تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) . وقال : ( ماء مباركا ) . وقال : ( وجعلنا السماء سقفا محفوظا ) وغير ذلك من الآيات وهي كثيرة . وبين لنا سبحانه أن هذا الكون بما فيه مركب من أشياء كثيرة تركيبا محكما وفق نظام متوازن دقيق ، لا يقبل العبث أو النقص أو التعديل فقال : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر) . وقال : ( بقدر معلوم ) . وقال : ( فقدرنا فنعم القادرون ) .
فلو كانت الثورة مبصرة والتقدم بناء لساير هذا النظام الكوني ، و لاحترم سننه وقوانينه ، إلا أن الثورة . وللأسف الشديد ؛ أفسدت في بعض جوانبها الهواء والماء والتراب وأفسدت خواص كثير من مخلوقاته سبحانه .
فالله سبحانه خلق النبات وجعل من وظائفه تعويض الجوّ ما ينقصه من الأوكسجين من خلال عملية البناء والضوئي . إلا أن إنسان الثورة الصناعية دمّر الغابات وطغى بالعمران على المساحات الخضراء . وفوق هذا راحت المصانع تلقي بكميات هائلة من الأدخنة في السماء مما أضر بتوازن البيئة ؛ فثاني أوكسيد الكربون كانت النسبة المئوية الحجمية له نحو : 0.029% في نهاية القرن الماضي ، وقد ارتفعت إلى 0.033% في عام 1970 م . وهي في تزايد مستمر . وتقدر خسارة العالم سنويا بنحو 5000 مليون دولار بسبب تأثير الهواء الملوث على المحاصيل والنباتات الزراعية ، والطريقة التي صنعت فيها السيارات بحيث تعتمد على المركّبات الناتجة من تقطير البترول كوقود جعلتها من أسوأ أسباب التلوث لما تنفثه في الجو من غازات مثل : غاز أول أكسيد الكربون السام ، وثاني أكسيد الكبريت والأوزون ، أضف إلى ذلك ما اخترع من مبيدات حشرية ملوثة .
ولعل هذا لا يقل خطورة في التلويث عن المواد المشعة التي تنبعث من ذلك الإنجاز العلمي اللا إنساني ! تلك التي تهلك الحرث والنسل والحياة ، ألا وهو استخدام الذرّة في المجال العسكري والصناعي ، ومعلوم فعلها في مدينتي اليابان وأهلهما، وظهرت بعد ذلك أنواع وأنواع .. ولازالت الكميات تتزايد مع كل تجربة نووية حيث يتساقط الغبار الذرّي على الأشجار والمراعي وينتقل إلى الأغنام والماشية ومنها إلى الإنسان .
وكذلك ما صنع من أجهزة أحدثت تلوثا الكترونيا ينتج عن المجالات التي تنتج حول الأجهزة الإلكترونية ابتداء من الجرس الكهربائي والمذياع ، وانتهاء بالأقمار الصناعية . وهذه المجالات تؤثر على الخلايا العصبية للمخ البشري وغير ذلك من الأمراض .
فإذا ما نزل الماء الطهور المبارك من السماء ليحيي الله به الأرض ويروي أهلها اصطدم هذا المطر بالهواء الملوث بأكاسيد النتروجين وأكاسيد الكبريت وذرات التراب وغيرها ، فلا يصل إلى الأرض إلا وقد أصابه من الإعياء ما أصابه ، وصار المطر والهواء اللذان يعدّان من أكبر نعم الله سبحانه وسيلة لتلويث التربة والينابيع المشكلة من ماء المطر والبحيرات والأنهار والبحار ، وبخاصة إذا ضمت ما يلقى في البحار ويدفن في التربة من نفايات ضارة ذرّية وغير ذرية ، ومياه المجاري وغير ذلك .
وتبرز مشكلة تلوث الماء على حقيقتها عندما تعرف أن المسطحات المائية تشكل أكثر من : 70% من مساحة الأرض ، وأن ما يستفاد منها لا يزيد عن 1% ، وأن هذه المسطحات متصلة ببعضها مما يوسع دائرة التلوث والرياح . وأدهى من ذلك وأمر : وجد العلماء أن هنالك نسبة كبيرة من الرصاص في الجليد في جزيرة " جرينلاند " تزيد عن نسبتها منذ عشرات السنين مع أنها خالية من السيارات والمصانع والسكان تقريبا ، وبعيدة عن مناطق العمران ، إلا أن الرياح حملت إليها التلوث هدية من يد الإنسان الصناعي عندما يجهل أسرار الطبيعة ونظامها . بل إن بعض الأنهار لم تعد صالحة للشرب مثل نهر الرور في ألمانيا ، وبالتالي تعظم حاجة الإنسان للماء النقي وهذا ما جعل كثيرا من المفكرين يرى أن الصراعات القادمة والحروب ستكون على مصادر المياه ! فما أكثر مايحمل هذا الكوكب من الماء ! وما أقل ما ينتفع به منه ، وكما قال الشاعر :
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
وأما التربة فعندما يتساقط عليها ما ثقل من هذه الملوثات وتأتي الأمطار لتزودها بما في الجو أيضا تتلوث الأرض وتخبث التربة ، فبدلا من أن تنبت لنا من كل زوج بهيج كما هو في نظام الله وسننه ، تنبت لنا نباتا نكدا ، وقد قال سبحانه : ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربّه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ) .
إن الله سبحانه قال : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) . ففي نظامه سبحانه صار الماء سببا في الحياة ، وبعد تدخل الإنسان في نظام الطبيعة دون مراعاة لتوازناتها صار سببا في الفساد والفناء .
ونحن عندما نذكر سلبيات هذه الصناعات لا نقصد الدعوة إلى عدم التصنيع أو التقدم ، وإنما نقصد الإشارة إلى أن التصنيع ينبغي أن يكون أكثر إيجابية في أهدافه ووسائله .
هذا عن تلوث الصناعات.. فإذا أضفت لها أكوام القاذورات المترامية على طرقات وساحات كثير من الدول المتخلفة ، وكذلك أحوال المجاري التي يرثى لها ، ولمصبّاتها في الأنهار العذبة ، وقطع الأشجار وإحراقها وغير ذلك مما يجعل الجميع مشاركا في تلوث البيئة ، وإن كان اللوم على من يدعي التقدم أكبر من غيره ، وبخاصة إذا علمنا أن أكثر التلوث إنما جاء من مدّعي التقدم والحضارة !! .
وكل هذا يذكرنا بقوله تعالى : ( ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ) .
فبين سبحانه أن الفساد ليس من طبيعة ونظام هذا الكوكب وإنما طرأ عليه من جهل ساكنيه وبما كسبت أيديهم وبالتالي بدلا من أن يعمروا الأرض التعمير الإيجابي عمروها على شفا جرف ، وصار الناس في اضطراب دائم وفي كل نزاع بين دولتين يتوقعون حربا عالمية نووية تهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد .
هذا بالإضافة إلى ما أصابهم من سهام التلوث البيئي مما جعلهم يعيشون عيشة ضنكة مصداقا لقوله تعالى : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) .
وإذا أردنا عيشة طاهرة آمنة مطمئنة فلا بدّ من فهم نظام الطبيعة ومسايرته ، ولابدّ من أن نستبدل بالصناعة العمياء الصناعة المبصرة ، لئلا يكون تقدمنا انتحاريا فإذا غيرنا ما بأنفسنا غير الله حالنا ، وقد قال تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )
يتضح للمتأمل في كتاب الله سبحانه أنه هدف من خلق الإنسان إلى ثلاثة أمور جليلة :
أولها : عبادة الله سبحانه فقال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) .
وثانيها : إقامة خلافة التوحيد على هذا الكوكب فقال : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) .
وثالثها : وهو ما نحن في صدده الآن : عمارة هذا الكوكب فقال : ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ..) .
ولما كان الفساد في الأرض يتناقض مع عمارتها نهى الشارع عنه وحاربه محاربة شديدة ، قال تعالى : ( إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) . وقال : ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) .
ومن أبرز قواعد الشريعة عند الأصوليين : إن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها .
ويقول ابن القيم : " فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه " .
وبلغت شدة النهي عن الفساد في الأرض إلى درجة سفك دم المفسد حيث قال سبحانه : ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ) . فجعل الفساد في الأرض مبررا لقتل المفسد .
والفساد في الإسلام يشمل الجانب العقدي والأخلاقي والبيئي وكل ما هو ضار في هذا الكوكب وقد صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) . وصار هذا الحديث قاعدة فقهية لعظمته وكونه من جوامع الكلم .
ومن جهة أخرى شجع الإسلام على مقاومة الفساد وإبعاده عن الناس لدرجة أنه جعل أبسط أنواع هذا الدفع جزءا من الإيمان ، فما بالك بثواب من فعل أكثر من ذلك ؟ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتفق عليه : " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .
والتلوث البيئي جزء من الفساد في الأرض ، إذ يعرّف بأنه : ( تواجد أي مواد تفسد نظام الطبيعة وما تحتويه من كائنات حية ونباتية ، وغلاف جوي ، بالإضافة إلى إفسادها للخواص الطبيعية والكيميائية للأشياء بحيث يؤدي ذلك إلى الإخلال بالتوازن البيئي . أو هو : وجود أي مادة أو طاقة في غير مكانها وزمانها وكميتها المناسبة .. ".
وعلى كلا التعريفين هو ضرر يطال الإنسان والحيوان والنبات ، ومتناقض مع ما يريده سبحانه من عمارة الأرض ، لذلك تنطبق عليه كل الأمور الشرعية التي ذكرتها ليتبين لنا أن الإسلام قبل 14 قرنا حذر مما تعاني منه البشرية اليوم والقرآن عندما يخاطب الإنسان داعيا له إلى الخير إنما يقصد الجنس البشري بأجمعه ، وعندما يتكلم عن الأرض وإصلاحها وعمارتها إنما يقصد كل الكوكب ، بل إن القرآن ينظر إلى البشرية على أنها أسرة مكونة من أب وأم و أولاد ؛ قال تعالى : ( يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) . وكلنا يعرف أن تفاحة فاسدة في صندوق تفاح تفسده ، ولكننا لم ننظر إلى العالم هذه النظرة القرآنية لنراه كصندوق تفاحاته دوله إلا في فترة متأخرة حيث صار يقال : إن العالم كقرية صغيرة لابدّ لها من تنظيم شامل في بعض الجوانب ، ومنها البيئة إذ لا تجدي فيه إلا الجهود المجتمعة المتآزرة .
ونحن مع تقديرنا للثورة الصناعية وما آلت إليه من تقدم تكنولوجي بدا يوما وكأنه عمارة للأرض وإصلاح لحالها إلا أنه يبدو في هذه الأيام أنها كانت ـ في بعض الجوانب ـ ثورة عمياء ، وتقدمها تقدما انتحاريا ما لبث أن صار نذير شؤم ، إذ وضع البشرية على حافة هاوية ! وما ذلك إلا لعدم إبصار سنن الكون ونظامه ودقّة إحكامه وتوازنه . فإن الله سبحانه عندما أسكن أبا البشرية آدم ـ عليه السلام ـ هذا الكوكب هيّأه له بهواء تناسبت فيه كميات الغازات بشكل مفيد له ، ومهد له الأرض وتربتها بشكل يخرج فيها النبات المبارك ، وأنزل عليه المطر المطهّر ، وحفظ كوكبه بغلاف جوي ، وغير ذلك مما عرف ومما لم يعرف بعد من بديع صنعه سبحانه . قال تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) . وقال : ( ماء مباركا ) . وقال : ( وجعلنا السماء سقفا محفوظا ) وغير ذلك من الآيات وهي كثيرة . وبين لنا سبحانه أن هذا الكون بما فيه مركب من أشياء كثيرة تركيبا محكما وفق نظام متوازن دقيق ، لا يقبل العبث أو النقص أو التعديل فقال : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر) . وقال : ( بقدر معلوم ) . وقال : ( فقدرنا فنعم القادرون ) .
فلو كانت الثورة مبصرة والتقدم بناء لساير هذا النظام الكوني ، و لاحترم سننه وقوانينه ، إلا أن الثورة . وللأسف الشديد ؛ أفسدت في بعض جوانبها الهواء والماء والتراب وأفسدت خواص كثير من مخلوقاته سبحانه .
فالله سبحانه خلق النبات وجعل من وظائفه تعويض الجوّ ما ينقصه من الأوكسجين من خلال عملية البناء والضوئي . إلا أن إنسان الثورة الصناعية دمّر الغابات وطغى بالعمران على المساحات الخضراء . وفوق هذا راحت المصانع تلقي بكميات هائلة من الأدخنة في السماء مما أضر بتوازن البيئة ؛ فثاني أوكسيد الكربون كانت النسبة المئوية الحجمية له نحو : 0.029% في نهاية القرن الماضي ، وقد ارتفعت إلى 0.033% في عام 1970 م . وهي في تزايد مستمر . وتقدر خسارة العالم سنويا بنحو 5000 مليون دولار بسبب تأثير الهواء الملوث على المحاصيل والنباتات الزراعية ، والطريقة التي صنعت فيها السيارات بحيث تعتمد على المركّبات الناتجة من تقطير البترول كوقود جعلتها من أسوأ أسباب التلوث لما تنفثه في الجو من غازات مثل : غاز أول أكسيد الكربون السام ، وثاني أكسيد الكبريت والأوزون ، أضف إلى ذلك ما اخترع من مبيدات حشرية ملوثة .
ولعل هذا لا يقل خطورة في التلويث عن المواد المشعة التي تنبعث من ذلك الإنجاز العلمي اللا إنساني ! تلك التي تهلك الحرث والنسل والحياة ، ألا وهو استخدام الذرّة في المجال العسكري والصناعي ، ومعلوم فعلها في مدينتي اليابان وأهلهما، وظهرت بعد ذلك أنواع وأنواع .. ولازالت الكميات تتزايد مع كل تجربة نووية حيث يتساقط الغبار الذرّي على الأشجار والمراعي وينتقل إلى الأغنام والماشية ومنها إلى الإنسان .
وكذلك ما صنع من أجهزة أحدثت تلوثا الكترونيا ينتج عن المجالات التي تنتج حول الأجهزة الإلكترونية ابتداء من الجرس الكهربائي والمذياع ، وانتهاء بالأقمار الصناعية . وهذه المجالات تؤثر على الخلايا العصبية للمخ البشري وغير ذلك من الأمراض .
فإذا ما نزل الماء الطهور المبارك من السماء ليحيي الله به الأرض ويروي أهلها اصطدم هذا المطر بالهواء الملوث بأكاسيد النتروجين وأكاسيد الكبريت وذرات التراب وغيرها ، فلا يصل إلى الأرض إلا وقد أصابه من الإعياء ما أصابه ، وصار المطر والهواء اللذان يعدّان من أكبر نعم الله سبحانه وسيلة لتلويث التربة والينابيع المشكلة من ماء المطر والبحيرات والأنهار والبحار ، وبخاصة إذا ضمت ما يلقى في البحار ويدفن في التربة من نفايات ضارة ذرّية وغير ذرية ، ومياه المجاري وغير ذلك .
وتبرز مشكلة تلوث الماء على حقيقتها عندما تعرف أن المسطحات المائية تشكل أكثر من : 70% من مساحة الأرض ، وأن ما يستفاد منها لا يزيد عن 1% ، وأن هذه المسطحات متصلة ببعضها مما يوسع دائرة التلوث والرياح . وأدهى من ذلك وأمر : وجد العلماء أن هنالك نسبة كبيرة من الرصاص في الجليد في جزيرة " جرينلاند " تزيد عن نسبتها منذ عشرات السنين مع أنها خالية من السيارات والمصانع والسكان تقريبا ، وبعيدة عن مناطق العمران ، إلا أن الرياح حملت إليها التلوث هدية من يد الإنسان الصناعي عندما يجهل أسرار الطبيعة ونظامها . بل إن بعض الأنهار لم تعد صالحة للشرب مثل نهر الرور في ألمانيا ، وبالتالي تعظم حاجة الإنسان للماء النقي وهذا ما جعل كثيرا من المفكرين يرى أن الصراعات القادمة والحروب ستكون على مصادر المياه ! فما أكثر مايحمل هذا الكوكب من الماء ! وما أقل ما ينتفع به منه ، وكما قال الشاعر :
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
وأما التربة فعندما يتساقط عليها ما ثقل من هذه الملوثات وتأتي الأمطار لتزودها بما في الجو أيضا تتلوث الأرض وتخبث التربة ، فبدلا من أن تنبت لنا من كل زوج بهيج كما هو في نظام الله وسننه ، تنبت لنا نباتا نكدا ، وقد قال سبحانه : ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربّه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ) .
إن الله سبحانه قال : ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) . ففي نظامه سبحانه صار الماء سببا في الحياة ، وبعد تدخل الإنسان في نظام الطبيعة دون مراعاة لتوازناتها صار سببا في الفساد والفناء .
ونحن عندما نذكر سلبيات هذه الصناعات لا نقصد الدعوة إلى عدم التصنيع أو التقدم ، وإنما نقصد الإشارة إلى أن التصنيع ينبغي أن يكون أكثر إيجابية في أهدافه ووسائله .
هذا عن تلوث الصناعات.. فإذا أضفت لها أكوام القاذورات المترامية على طرقات وساحات كثير من الدول المتخلفة ، وكذلك أحوال المجاري التي يرثى لها ، ولمصبّاتها في الأنهار العذبة ، وقطع الأشجار وإحراقها وغير ذلك مما يجعل الجميع مشاركا في تلوث البيئة ، وإن كان اللوم على من يدعي التقدم أكبر من غيره ، وبخاصة إذا علمنا أن أكثر التلوث إنما جاء من مدّعي التقدم والحضارة !! .
وكل هذا يذكرنا بقوله تعالى : ( ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي الناس ) .
فبين سبحانه أن الفساد ليس من طبيعة ونظام هذا الكوكب وإنما طرأ عليه من جهل ساكنيه وبما كسبت أيديهم وبالتالي بدلا من أن يعمروا الأرض التعمير الإيجابي عمروها على شفا جرف ، وصار الناس في اضطراب دائم وفي كل نزاع بين دولتين يتوقعون حربا عالمية نووية تهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد .
هذا بالإضافة إلى ما أصابهم من سهام التلوث البيئي مما جعلهم يعيشون عيشة ضنكة مصداقا لقوله تعالى : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) .
وإذا أردنا عيشة طاهرة آمنة مطمئنة فلا بدّ من فهم نظام الطبيعة ومسايرته ، ولابدّ من أن نستبدل بالصناعة العمياء الصناعة المبصرة ، لئلا يكون تقدمنا انتحاريا فإذا غيرنا ما بأنفسنا غير الله حالنا ، وقد قال تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )